ست حِجَجٍ من التصالح مع "الفنون سيئة السمعة"

على امتداد تاريخ هذا البلد ظلت الثقافة وشماً في الذاكرة، وصدى في الخيال الجمعي، غير أن البداوة، بتقلباتها ومراوغاتها وقدرتها على الأخذ بزمام الأمور، قادت المجتمع إلى الترحيب ببعض الفنون كالشعر والموسيقا (الموسيقا التقليدية حصرا)، ومناصبة العداء لفنون أخرى توصف بـ"التمدن" كالمسرح والسينما والرسم والرقص والنحت والموسيقا الحديثة، على اعتبارها فنونا "سيئة السمعة"؛ والمصطلح هنا مسكوك بلغة الدكتور أحمد حبيبي الذي صاغه ذات صرخة ضجر من تصنيف الفن إلى فسطاطين؛ فن مذبوح على الطريقة الإسلامية وفن موسوم بالضلالة والغواية.. وظلت السياسة الثقافية للبلد تساهم في تعميق ذلك الشرخ، وإيلاء اهتمام أقل (يصل أحيانا إلى التجاهل) بفنون لا يمكن أن يستقيم بلد دون نهضتها ومواكبتها لمسارات التنمية الأخرى.
ومنذ ستة أعوام تبدلت طريقة التعاطي مع الفن في بلادنا، حتى بدا جليا أن الفنون تدخل في صميم المشروع البنيوي للدولة، كأن الوطن بدأ يصغي إلى صوته الداخلي، النابع من تلافيف الروح ومكامن الإحساس ومناجم الخلق والإبداع، فتفتحت نوافذ كانت إلى وقت قريب صماء محكمة الإغلاق، غير عابئة بنذر الفن التي تضرب نفوس المبدعين الموريتانيين بلا هوادة وتترْجَم إلى تحف فنية وإبداعية عظيمة
وكشاهد ممارس للفن ومتذوق له، أتعاطاه منذ ربع قرن تأثيرا وتأثرا، أحتفي في هذا المقال بمنجز سداسي الأبعاد، وأحمل بؤرة ضوء أسلطها على زواياه الست: ثلاثة إنجازات تحققت على أرض الواقع، واستبشر بها كل ذي قلبٍ فنان، ويدٍ مبدعة ونفسٍ خلاقة، وثلاثة أخرى قيد الإنجاز يُنتظر أن تُرى قبل أن نودع هذا العام.
أولى البشائر كانت إنشاء "المعهد الوطني للفنون"، مِحرابا للإبداع في مجالات المسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلي، ومختبرا لصياغة الجمال تأسيسا على المعطيات الأكاديمية والمنهجية، وفضاء مفتوحا للمواهب من كل حدب وصوب لصقل ذاتها وتشكيل مساحة لمختلف أشكال التعبير الفني.... يحاجج المعهد الوطني للفنون بأن ريشة الفنان لا تقل قداسة وأهمية عن جلباب القاضي ومشرط الطبيب وفأس الفلاح وربطة عنق المسؤول الإداري رفيع المستوى.
كانت جائزة رئيس الجمهورية للفنون الجميلة ثانية البشائر، جاءت قبلةً على جبين الإبداع، وكأن الدولة بخيلها وخيلائها قد مدت يدها إلى الفنان الموريتاني قائلة: ها أنت تُرى، وتُكرَّم، وتُحسب ضمن فوانيس الوطن... تتجاوز الجائزة قيمتها كدرع وإفادة أو مبلغ مالي معتبر، لتكون رمزا كثيفَ المعنى والمبنى، يعيد الفن من منفى التيه والهشاشة والتشرد على قارعة الطريق، إلى حضن الدولة معززا مكرما، مع الحفاظ على حريته وتحليقه وانطلاقه إلى الأفق البعيد بلا قيد ولا سلاسل.
البشرى الثالثة جاءت طازجة ذات تعديلٍ وزاري قبل عام من الآن، وتمثلت في استقلالية الفنون وترفيعها إداريا لتكون جزء من اسم الوزارة الوصية، لينتج عن ذلك استحداث مديرية مستقلة تعنى بالفنون... لطالما كان الفن ملحقا منسيا تابعًا لا متبوعًا، فرسمت الحكومة بهذه الخطوة ملامح إدارة الفن، ومكّنته من أن يرفع رأسه بكل شموخ نِدًّا لبقية القطاعات الإدارية...
كانت تلك البشائر الثلاث التي تهللت لها تقاسيم وجوه الفنانين الموريتانيين بعد أن رأوها تتحقق على أرض الواقع، وثمت ثلاث بشارات أخَر تلوح في أفق الفعل وسماوات المنجز، تمتد لها الأعناق لتراودها عن غدها الموعود، ثلاثة مشاريع بالغة الأهمية تحجبها الأشهر المقبلة، أولها "بطاقة الفنان المهني"، التي كانت مطلبا ملحا، لحسم جدلية تمهين القطاع.. البطاقة المهنية جواز سفر رمزي في عالم الإبداع، تضمن للفنان كرامته المهنية وحقوقه الاجتماعية، وتُخرجه من التيه القانوني إلى فضاء الاعتراف المؤسسي، وفي هذه الاثناء تباشر وزارة الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان تشكيل "مجلس مهنيي الفن" الذي سيعهد إليه بمهمة منح بطاقة الفنان لم يستحقها.
المشروع الثاني الذي سيوضع حجره الأساس قبل نهاية هذا العام هو "قصر الثقافة"، الذي سيكون مَحجًّا للفنانين وموطئ إبداعٍ يعج بمختف أشكال التعبير الفني من مسرح وسينما وفنون بصرية وعروض أدائية ورقص وسيرك ونحت... وسيجعل تشييده من منطقة المتحف الحالي حيا ثقافيا في قلب المدينة، تحتاجه نواكشوط و يطلبه الفنانون منذ فجر الاستقلال.
أما ثالث المشاريع الفنية الواعدة فهو تشييد سلسلة من "المسارح الرومانية المفتوحة"، والتي لن تكون مجرد بنى تحتية تُضاف إلى الخارطة، بل هي استدعاء لطقسٍ فني عريق، وإعادة الاعتبار للعلاقة بين الخشبة والفضاءات المفتوحة، وستكون مكانا ينفق فيه المسرح على جمهور نواكشوط من كنوز الجمال والإبداع والإمتاع.
إننا نعيش ما يشبه الصحوة الفنية، صحوة تؤمن بمنطق قوة المنجز وتكفر بالضجيج الفارغ، صحوة تعطي، وتبني، وتصلح، وتصنع، وتمد، وتُسدي، وتتيح، وتضيف مساحات متزايدة في أجندة الحكومة وخططها واستراتجياتها، مساحاتٍ خالصة لروح الفن وذاتِ الفنان. وما يزال الغد مشرعاً على مزيدٍ من الضوء، ووعد بالإيغال في عمق المنجز الفني والثقافي.