
تابعت بأهتمام كبير، الخطاب التاريخي القيم ، الذي افتتح به السيد الرئيس محمد الشيخ الغزواني، النسخة الرابعة عشر لمهرجان مدائن التراث، ورغم ما كُتب حوله من مقالات، وما أقيمَ من ندوات، وتعليقات نظرا لثرائه، وقوة الطرح الذي تميز به، إلا أن جانبا منه ظل غائبا عن الفهم والتحليل، عند الكثير من الذين تناولوه، تعليقا وتحليلا، وإن كانت بعض المساهمات، وردت فيها إشارات، على بعض من ذلك الجانب.
و اللافت للإنتباه حقا، لمن تابع الخطاب وتدبره، أن ما ميزه كخطاب، هو البعد التخصِيصِي والإفرادي، عندما جعل " المواطنة " نقطة إرتكازه وعنوانه البارز، من بدايتة، حتى نهايته.
وقد أراد السيد الرئيس، بذلك، أن يشد أنتباه الحاضرين، والغائبين،والشعب، على حد السواء، إلى هذه القضية المركزية " المواطنة"، مبينا للكل،أن لا قيمة لتفكيره، ولا لتدبيره، على الشعب، ما لم يقل له بلغة واضحة، ولمن يتحملون المسؤولية التاريخية، والشباب منهم خاصة، أن هذه المسألة، أصبحت فرض عين، لا فرض كفاية، وعلى الجميع الحرص على تقويتها، وجعلها،
الموضوع المركزي في الإهتمام والإنشغال، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى، أراد السيد الرئيس أن يقول، أن لا قيمة لتفكيره ولا لتدبيره ،على الشعب، الكريم، ما لم يصل به إلى درجة الوعي العالية بالأهم، ويصل به إلى درجة من النضج السياسي الرصين، الخالص المطلق الولاء، لذلك الأهم، والأهم في كليهما، والذي لا مفر من الإنشغال به، وعليه، وجعله الأساس المركزي للتفكير والتدبير هو هذه الرابطة "الأم "، للجميع، واقصد بها " المواطنة" و "المواطنة الحقة"، بالتحديد " لأن بلدنا رهين، في بقائه وفي تقدمه وازدهاره، بقدرتنا على تعزيز رباط المواطنة وحمايته في وجه التأثيرات السلبية ".
ولأن هذه الرابطة على هذا القدر الكبير من الأهمية، جعلها صاحب الفخامة، نقطة الإرتكاز ، في التفكير والتدبير عنده منذ البداية، نظرا لما تستطيع التكفل به عند بنائها، وترسيخها في عقل وسلوك ووجدان المواطنين، وبالنتيجة على وحدتهم وانسجامهم، ولما قد تجلبه من ضرر بالغ الخطورة على الدولة والشعب، عند إهمالها وجعلها على هامش الإهتام، لا في لبه.
ولهذا، ولإدراكه، لهذه الأبعاد، لم يُفوِت السيد الرئيس عليه أية فرصة منذ إدارته لشأن البلاد للحديث عنها، فقد ظلت الشغل الشاغل له، والثابت الحاضر، الذي لا يغيب، في جميع خطاباته، وإطلالاته على الشعب، وفي كل المناسبات،والمتتبع لجميع ما يصدر عنه، سيلاحظ ذلك .
صحيح أنها، تحضر بدرجات متفاوتة، وقد تأخذ مساحة، أقل أو أكثر، في هذه الماسبة أو تلك للخطابات، والاطلالات لكنها حاضرة دائما.
والسبب في ذلك، قد فات على البعض، وفات أكثر - ربما - على، المنشغلين بمواكبة السيد الرئيس من بعض الكتاب والسياسيين ..، فيما يقول ويفعل، ولهم العذر في ذلك، لأن السيد الرئيس، يتبع منهج التدرج في الإفصاح عن بعض أفكاره، لأن أفكاره مشروع لبناء دولة قائمة على أسس راسخة، وما تلك الأسس الراسخة إلا المواطنة الحقة. وعندما ترتقي الأفكار إلى مستوى هذا الطموح المقرون بالتدبير، فإنها، عادة لا تكون بالوضوح الكافي حسب طبيعة البعد الاستراتيجي القائمة عليه، فلا تظهر بكامل عناصرها المساعدة على التحليل، لأن ذلك القدر من الوضوح، يحتاج، لمن يستقبله، ولمن يتقبله، ويفهمه، ويتبناه ويعمل بمقتضياته، والرئيس،
مدرك تمام الإدارك، أنه يكون مُقنعا أكثر، عند طرحه لأفكاره، وعرضها كمشروع للبناء، عندما يخفف اكثر فأكثر، الحيف عن شعبه، ويحقق له كبريات حاجياته وخاصة، لمن هم في دائرة الفقر والفقر المدقع، لذلك ظل خطابه حول هذه النقطة المركزية " المواطنة الحقة" يتدرج في الوضوح والإتساع، تماهيا، وتماشيا مع مستوى المُنجز ، واتساع مشموليته للأقل حظا من المواطنين .
والسيد الرئيس، على إلمام تام بأن خاوي البطون " الجياع"، ليس عندهم حيز نفسي للإنتباه إلى أمر " المواطنة"، فقلوبهم منصرفة عن كل أمر، لا يُسكت أنين أطفالهم المرضى و الجياع،
ولأن تفكيرهم مُنشغل بأمر كهذا، فالسؤال المطروح عندهم هو : ماذا يقدم لنا هذا الرئيس، لسد رمق أطفالنا ؟ غير محاضرات عن الوطنية والإنسجام الإجتماعي؟.
ونحن ما زلنا نقتات على فتات ما تقدمه الحاضنات الإجتماعية، وعلى ما تقدمه الجهات.. مقابل تمسكنا بعصبياتها وبشرائحيتها، لنضمن أستمرار ذلك الفتات.
ولأنه مدرك لذلك، ومدرك لمساحة تأثير ذلك على تلك الأطر ، انشعل، وركز بالأساس على تحقيق العيش الكريم للشعب وللمواطنين الاكثر رضوخا لذلك الإرتهان المهين للكرامة، امتثالا لقاعدة " تحرير الأبدان، قبل تحرير الأذهان " .
ولأنه قطع أشواطا كبيرة في ذلك، من خلال المنجز المعاش والماثل للعيان، وأدرك بوضوح، أن تعلق المواطنين بالدولة كحاضنة تُطعم من الجوع وتُؤمن من الخوف، صار بإمكانه، سحب البساط من تحت تلك الأطر، لكي لا يبقى أي تأثير لها، على المواطنين، لأن الدولة أصبحت تتكفل بأمورهم.
ولأن ذلك قد تحقق الآن بفضل الانجازات الملموسة، والتي جاء الخطاب على ذكر بعضها، لا لغرض تعدادها قطعا، وإنما للتأسيس بالمنجز الملموس على تأصيل فكرة المواطنة، وعلى وجه الإقناع بها كفكرة وموضوع صار بالإمكان، التحدث عنه، وشد الإنتباه إليه، لأن حماية الحاصل من بناء الدولة والمكتسبات الوطنية، صارت بالحجم الذي لا يجب التفريط فيه، بل وصار من الواجب توفير شروط بقائه واستمراره، ليدوم الاستقرار الحاصل لمتابعة البناء والتعمير، تحقيقا لطموح شعب يتطلع إلى الرفاه والتحديث والعصرنة لدولته، وما تلك الشروط الضامنة لذلك، غير شعب ملتئم على رابطة قوية، لا يتزعزع الولاء لها، لا في النفوس ، ولا في العقول، وما تلك الرابطة، إلا المواطنة، والمواطنة فقط، لأن غيرها من الروابط عدى الدين الاسلامي" الحق"، القائمة عليه، رخوُ ، يتقلب على الدوام تبعا لحاجة أصحابه، ولا يستطيع الصمود أمام المتغيرات الكبرى، خاصة، تلك المتعلقة بالعوامل الخارجية، ولبلدنا وشعبنا تاريخ يُطمئن على رسوخ الوحدة والمواطنة الحقة يوم كان قرية واحدة، قبل أن يفتك به المستعمر ويقوض أسس وحدته، والتي لم تكن، غير الإسلام والمواطنة، يسعى السيد الرئيس إلى إعادة بناء تلك الأسس في صورتها المعاصرة، التي تفرض احترام الحقوق والحريات، وإقامة العدالة والمساواة، واحترام الكرامة الإنسانية، وتوفير العيش الكريم للجميع..
وعلى هذا الأساس، صار بإمكان الرئيس، أن يتقدم بالأفكار المركزية التاريخية كأسس وركائز لقيام الدولة وبقائها وأستمرارها، ومن تلك الأفكار فكرة " المواطنة"
كرابطة وحيدة بين الشعب وعلى أساسها يلتف ويتوحد، وينصهر في بوتقة واحدة .
وقد جاء مهرجان وادان في النسخة الرابعة عشر لمدائن التراث، في اللحظة والوقت المناسبين، لطرح هذه الفكرة، بالوضوج الكافي وبالقوة التي تجعل الناس يستوعبونها، ويدركوا أهميتها، ويكتشفوا في نفس الوقت، كل ما ينافيهما، ويتعاص معهما ويعرقل تحقيقها من مسائل، لعل في مقدمتها القبلية والجهوية والشرائحية، والعنصرية..الخ، وغير ذلك من الأمور التي لا يمكن أن تقام معها دولة قوية، تحقق نهضة شاملة، لأن وجود وأسمرار تلك الأطر، يتنافى و يتناقض مع أسس وركائز قيام الدولة.
ولذلك، كان الخطاب صريحا، وقويا في الكشف عن ذلك عندما قال " إن الدولة الحديثة، لا تقام، في الأساس، إلا على أساس مفهوم المواطنة، لما يستلزمه من مساواة في الكرامة والحقوق والواجبات، وما يتطلبه من تحرير من العصبيات القبلية والفئوية والشرائجية المنافية لجوهره" .
ويضيف بقوة " وإنني لراسخ القناعة، بأن بلدنا رهين في بقائه، وفي تقدمه، وازدهاره،
بقدرتنا على تعزيز رباط المواطنه وحمايته في وجه التأثيرات السلبية لمختلف الروابط الأخرى" .
ولأن المواطنة، على هذا القدر من الأهمية، ولأنها الرابطة الوحيدة منذ الآن، وفي المستقبل، فهي التي أقدمها لك أيها الشعب الأبي لتكون الأساس الأول لوحدتك وانسجامك، فلتحرر نفسك من سواها من الروابط، فذلك، هو الأنفع والأصلح لك.
ولأنه مدرك تمام الإدراك لأهمية هذه الرابطة، يقول في الخطاب " لم أدخر جهدا، منذ أن توليت مقاليد الحكم، في سبيل أن يزداد رباط المواطنة رسوخا ومتانة ليكون الأساس الحصري لعلاقة الدولة بالمواطنين ودعامة الإنسجام الإجتماعي والوحدة الوطنية .
ولأن " رباط الوطنية " بهذه الأهمية، لم يكن السيد الرئيس ليطرح، فكرة المواطنة بهذه القوة، ويدعو لإعتمادها كرابطة مصيرية ووحيدة للدولة والمجتمع ، لولا أنه آنس رشدا من شعبه، ووجد الثقة به، تترسخ في قلوب مواطنيه، عرفانا له بالجميل، لما حققه له من مُنجز غاية في الأهمية، ولما صار بالإمكان أن يكشف له عن هذه الأمور الجوهرية لمستقبل مضمون السكينة والألفة بين مكوناته، ويدعوه إلى تلك الرابطة لجعلها المشترك الوحيد والأوحد له، ولكنه طرحها، لأن الحال النفسي للشعب، يوحي بقدر كبير من الرضى عن وضعه الإجتماعي والاقتصادي ... وأصبح مُهيئا للإصغاء والإمتثال لأي أمر فيه الرشاد والتدبير عليه، أحرى أن يكون متعلقا بكينونته "وبقائه".
وعلى هذا الأساس، صار بإمكان الرئيس، أن يهاجم ويشن حربا صريحة على كل الروابط الأخرى، من قبلية وجهوية وعرقية وشرائحية ... وعلى كل رابطة لا تخدم هذه الرابطة أو تعرقل تجذرها ورسوخها في الأذهان، ولم تكن خطاباته السابقة في كل المناسبات الكبرى، والتي تحدثت عن التراتبية، وغيرها مما ينتقص من كرامة المواطنين، وتلك المتعلقة بالفساد ومحاربته وإعلان الحرب على الضالعين فيه، وما استتبع ذلك من إجرائات رادعة تحمي المال العام من بطش الباطشين، إلا مظهرا بارزا، ومنهجا واضحا لبناء أرضية صلبة وتهيئة مدروسة، لإطار مناسب لتوجيه الناس والمجتمع والدولة، على هذه الفكرة، لجعلها الرابطة المركزية الوحيدة للدولة .








