ولتبقي لنا موريتانيا.. من قبل ومن بعد

هي حقا استحقاقات انتخابية مفصلية، بكل ما في الكلمة من معني، لما لها من دور في رسم المشهد السياسي المستقبلي لبلادنا، ومن أثر حاسم في تحديد نوعية الحكم، في غضون فترة قصيرة، ستة أشهر، بالكاد، وهي المدة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية القادمة...
هذا بالإضافة الي عوامل أخري، كإلزامية الحصول علي واحد في المائة بالنسبة للأحزاب السياسية المشاركة،

تحت طائلة سحب الترخيص ، مع عدم امكانية المقاطعة لانتخابين متتاليين، مما حدا بجميع الأحزاب السياسية إلي المشاركة؛ وكذا نزعة الطموح الطاغية إلي الدخول إلي البرلمان، المغروسة لدي الكثير من وجهائنا ورجال أعمالنا، وزعاماتنا السياسية؛ بالإضافة إلي التنافس الحاد بين الزعامات القبلية في الداخل، و"الكوتا" النسائية الملزمة؛ كلها عوامل جعلت الناخب الموريتاني علي موعد مع انتخابات ساخنة، متعددة الصناديق، بالغة التعقيد، في تنظيمها والاشراف عليها، وإدارتها.
وحتي الإدلاء فيها بالصوت، كان في غاية التعقيد، نظرا لصعوبة العثور علي المرشح المفضل أو اللائحة المفضلة، من بين فسيفساء لا حصر لها من الشعارات الحزبية، خصوصا بالنسبة للأميين، الذين ننسي أو نتناسى أنهم يشكلون، للأسف الشديد، الغالبية الساحقة من سكان أريافنا، وقرانا، ومدننا الداخلية.
كل هذا يقال عن انتخاباتنا، وغيره، مما هو وارد عن توصيف هذه الانتخابات ووصفها، والتعليق عليها وتحليلها، لكننا لا نستحضر في الغالب الظروف التي تأتي فيها هذه الاستحقاقات الانتخابية، والمرحلة التي تمر بها بلادنا، وضرورة الانتباه الي الأوضاع الدولية والاقليمية الراهنة.
ولعله من الجدير بالذكر، أن هذه الانتخابات تأتي في أصعب الظروف السياسية والأمنية وأشدها تعقيدا، في عالمينا العربي، الذي لا يزال يكتوي بتداعيات تجارب "الفوضى الخلاقة" ، والإفريقي، الذي نال نصيبه الوافر من الارهاب والعنف والتدمير.
هذا بالتأكيد مما يجب علينا إدراكه بشكل عميق حتي لا نقع، من حيث لا ندري، في مغبة خيارات غير محسوبة العواقب، لن يبررها غباء اللهث وراء سراب "ديمقراطية طوباوية"، هي أخطر ما يمكن تصوره، حين تتحول إلي منزلقات الفوضى، ومتاهات العنف المقيت، والصراعات المدمرة، والقلاقل المستدامة، والحروب العبثية التي يستعصي، بله يستحيل، إيقافها، والتشرذم المحتوم حينها للوطن الواحد، والهجرة القسرية والتيه، في مشارق الأرض ومغاربها، الذي سيكتوي به، حين لا ينفع الندم، الشيوخ، والنساء، والأطفال الصغار الأبرياء، وكل فرد من أفراد المجتمع. لأن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها. ولأن "إيقاظها"، ليس بين الواحد منا وبينه، إلا "تصرف" –حركة، كلمة، موقف، رأي مكتوب أو منطوق، خيار انتخابي- غير محسوب العواقب-، فيكون قد أسهم في اشتعالها، والعياذ بالله، من حيث لا يدري.
ومع ذلك، فلا أحد في بلادنا، ولله الحمد، يريد الفتنة، ولا يسعي إليها، ولا مجال، بالتأكيد، للمزايدة علي وطنية أو غيرة أي أحد، إلا أن التنبيه إلي ضرورة اليقظة، والانتباه إلي خطورة المنزلقات، وسهولة الوقوع فيها، مع صعوبة أو حتي استحالة الخروج منها، وضرورة أخذ العبرة من الحروب والدمار الذي عرفته شعوب أخرى، وأوطان هي أعرق وأقدم منا، من الأهمية والأولوية بمكان.
فاللحظات المفصلية والحاسمة والعميقة التـأثير، علي مستقبل الشعوب والأوطان لا بد من الانتباه لها، والتصرف خلالها بما يجب من تحمل للمسؤولية كاملة غير منقوصة، بلا توان، ولا هوادة، ولا مداهنة، وذلك عين الواجب وصميمه و آكده، إن نحن أردنا لأوطاننا حفظ بيضة، ولشعوبنا بقاء ريح، ولأمتنا بقاء ذكر.
فأين نحن، وأين كنا؟ وما هي طبيعة وطننا؟ ما خصوصياته؟ ما هي أولوياته؟ كيف تنجح بلادنا في امتحان حفظ الأمن، والمحافظة علي السلم الاجتماعي؟ كيف نكسب رهان التنمية المستدامة، ونحافظ علي شروطها ومقوماتها؟
لن نعدم الجواب الصحيح، ولن نحيد عنه، إن نحن أخذنا في الاعتبار ما ذكر آنفا، فنقول للإجابة عن مجمل هذه التساؤلات :
1-نحن في مفترق طرق، فإما أن نعي الرهانات، وجسامة التحديات، فنمضي واثقين، في مواصلة حثيثة لما تم إنجازه، وتحصينه، والمحافظة عليه، فننجح ونكسب المزيد من معارك التنمية، والتقدم، والبناء، والرقي. وإما، لا قدر الله، العكس.
2-كنا، وإلي عهد قريب جدا، في حالة من انعدام الدولة، وغياب واضح للأمن، و التفلت الحدودي، والاستهتار الجنوني بالمصالح العليا للوطن، والعبث بمقدرات الدولة، والتسيب اللامحدود، و النهب المبرمج للمال العام، والموت السريري للوطن...
3-طبيعة وطننا : تركيبة عرقية متنوعة، يجب أن تستغل كمصدر ثراء، وجغرافية مهمة علي أكثر من صعيد، وعقيدة واحدة، وملة سمحة واحدة، تشكل، دون أدني شك، الحصن الحصين، والحاضنة الوثيقة، والملاذ الآمن، لكافة أبناء هذا الوطن. لا يجوز لأحد ادعاء احتكارها، ولا استغلالها لمآرب شخصية، ولا الزج بها في حسابات ضيقة، ولا الاستقواء بالقراءات والتأويلات المدحضة والواهية فيها، لزرع الشنآن، والتعصب البغيض، والكراهية المقيتة، والانجراف وراء تأويلات التشدد المنهي عنه، والغلو، والتنطع في الدين.
4-خصوصية وطننا، ولنا أن نفخر بذلك، هي أننا شعب مسالم، سلمي، مسلم بحق ومتسالم، تتجذر فيه عقيدة الحفاظ علي الأنفس، بشكل فطري، ينفر من القتل و يستهجنه. هي بحق نعمة كبري، قد تحسدنا عليها شعوب أخرى، أحوج ما تكون اليوم إلي السلمية والمسالمة. وهذه الخصوصية أغلي ما نملك، فيجب حفظها وتعزيزها.
5-أولوية بلادنا : إن أولوية الأولويات بالنسبة لبلادنا، هي الحفاظ علي الأمن والاستقرار، والحفاظ علي المكتسبات التي تم تحقيقها. ويتضح ذلك من خلال إجماع كل العقلاء في العالم، علي أن شرط الأمن والاستقرار، أصبح مقدما علي كل الاعتبارات، حين يتم الحديث عن شروط ومقومات النهوض بالأوطان، وتنميتها، وتقدمها، وازدهارها، ورقيها. وذلك نظرا لما اتضح من الواقع المشاهد لبلدان، انفرط عقد الأمن فيها، فلم يعد الحديث واردا لديها، لاعن اقتصاد، ولا تعليم، ولا صحة، ولا سكن، ولا تشغيل، ولا استثمار، ولا استغلال لموارد طبيعية، ولا إيراد، ولا تصدير.
ولا يخفي علينا، نحن الموريتانيين، بالأخص، ما تعنيه كلمة "أمن" و "استقرار". فلا يخفي علي أحد كيف تجاوزنا، شامخي الرؤوس، مرحلة الهجوم علينا، واستباحة مجالنا الترابي من طرف شرذمة من عصابات الإجرام، والإرهاب، والتهريب؛ لا أحد منا ينسي تلك الأيام العصيبة التي عرف فيها جيشنا الباسل، الضعف، و العجز عن ملاحقة الارهابيين الجبناء، الذين اعتدوا عليه في "لمغيطي" وغيره؛ لا أحد منا بإمكانه أن ينسي أو يتناسى يوم هجوم الارهابيين الجبناء، واعتداءهم السافر علي أمن وسكينة المواطنين الأبرياء في العاصمة نواكشوط، يومها، ويجب أن لا ينسي أحد ذلك، يومها لم يكن جيشنا الباسل، يملك حتي سيارات، ولو رباعية الدفع العادية، ناهيك عن العسكرية، لملاحقة ثلة الارهابيين الجبناء.
لكن، كيف هي أوضاع جيشنا الباسل اليوم؟
وكيف هي الحالة الأمنية لبلادنا؟
اسال أحد أفراد الجيش، من ضابط الصف إلي الجنرال، اسأل المواطن العادي، الذي رأي بأمي عينيه ما راي خلال العروض العسكرية في نواكشوط و نواذيبو و كيهيدي، يخبرك الجميع أن الجيش الموريتاني أصبح يملك من العدة و العتاد، ما ينسينا تلك الفترة الحالكة. فلديه اليوم دبابات حديثة، ومدافع ثقيلة، ورشاشات أوتوماتيكية من مختلف الأحجام والعينات، وقذائف، وصواريخ، وراجمات للصواريخ، ومدرعات، ومصفحات، وحاملات جند، وسلاح جوي كامل الجاهزية والفعالية، وجيش بحري مزود بأحدث أنظمة المراقبة والمطاردة؛
وعن الحالة الأمنية، فالوطن كله ولله الحمد في أمان، فالحدود مصونة، وبها نقاط عبور لم يعد يجرؤ أي أحد، كائنا من كان، أن يعبر إلينا أو يخرج من بلادنا، إلا من خلالها؛ ولم يعد الارهابيون يملكون الجرأة للهجوم علينا، لما باتوا يعلمون عن جاهزية جيوشنا، وبسالتها واستبسالها، في التصدي لهم، وملاحقتهم، ودحرهم، وطردهم من كل شبر من أراضي وطننا الحبيب.
إنها لعمري، نقلة نوعية، تهم في الصميم حفظ وصيانة كيان دولتنا، نقلة تم تحقيقها، رغم العاديات والدواهي، لتضمن بقاء دولتنا الفتية، في خضم عالم يمور مورا، ويغلي غليانا، ويشهد ارتفاعا غير مسبوق في تزايد وتيرة القلاقل، والتفجيرات اليومية، والدمار، والتقتيل، والخطف والارهاب، والحروب الأهلية التي محت أوطانا بأكملها من علي الخريطة، وأرجعتها، من هول الدمار الذي عرفت، والعياذ بالله، إلي ما قبل التاريخ.
وحسبنا القول، ونحن في أوج انشغالنا، ما بين الشوطين وما بعد الشوطين، بمن فاز ومن لم يفز في الانتخابات البلدية، والتشريعية، والجهوية؛ حسبنا القول أن علي الجميع أن يميز بين الجوهري وغيره، وأن علي كل مواطن أن يعلم علم اليقين، أن العودة إلي الوراء يجب أن ترفض، وأن الانتخابات في النهاية، ليست إلا وسيلة لتحقيق غاية أسمي، هي الحفاظ علي المصالح العليا للوطن، وتحصينه من المخاطر الداخلية والخارجية. فلنكن علي حذر من أي خيار او سلوك انتخابي، قد يهدد المصالح العليا لبلادنا. ولنختر ، بكل حرية وأريحية من نراه كفؤا لخدمة الوطن والمواطن.
أما الحديث، السابق و اللاحق لهذه الانتخابات وما بعدها، عن مأمورية ثالثة، فهو حديث ثانوي، رغم أنف المتشدقين بالديموقراطية، ومبدأ التناوب السلمي علي السلطة، فكل ذلك بالغ الأهمية لاشك، إلا أنه ثانوي، بل متروك ومطروح جانبا، عندما يتعلق الأمر بالحفاظ علي المصالح العليا للوطن.
فمن منا يجرؤ اليوم علي الدعوة إلي التفريط في المصالح العليا للوطن، المتمثلة أولا وقبل كل شيء في حفظ أمنه واستقراره؟ من منا، يملك أدني سلافة من عقل أو قسط من رشد، يجرؤ علي الدعوة إلي استبدال نظام نجح نجاحا باهرا في حفظ أمن الوطن وسلامة المواطن، في الوقت الذي اخفقت فيه أنظمة عريقة، أشد منا قوة، وأكبر عتادا وأكمل عدة؟
واضح أن هذه النقطة محسومة، وأن الإجماع حولها، مؤكد من طرف جميع المواطنين، ولن يشذ عنه إلا أخرق، سقيم النظر في الشأن العام، لا يأبه لمواقفه، او عدو لدود لنفسه ووطنه.
فلتبقي لنا موريتانيا، قبل كل انتخابات وبعدها، مصانة الحدود، آمنة الوهاد والنجاد، ماضية قدما في تحقيق المزيد من المكتسبات، مرصوصة الصفوف، متمسكة بنظام حكم رشيد، لغته تعبيد الطرق، وبناء المستشفيات والمدارس والجامعات، وإيصال الماء والكهرباء إلي كل بيت، وفعله الأمن والاستقرار، والسكينة والطمأنينة لكل الموريتانيين.
عاشت موريتانيا محفوظة الأمن، مصونة الحدود، مهابة في جوارها، وازنة في العالم، معززة مكرمة، في حضنها العربي، وعمقها الإفريقي

  شارك المقال: