مجرمون خارج السجن!

طالعتُ في وقت متزامن خبرين يستحق تزامنهما التوقف والتأمل.

الخبر الأول يتعلق بإطلاق سراح لصٍّ أُلقي القبض عليه الساعة الرابعة فجرا، بعد محاولته السرقة والاعتداء بالسلاح الأبيض. وقد تمكن الضحية المستهدف (الشاب أحمد محمد غدة) رغم إصابته بجرح في يده، من السيطرة على اللص، وتسليمه للجهات الأمنية. لكن المفاجأة الصادمة كانت في إطلاق سراح اللص بعد وقت وجيز، ودون عقاب!

أما الخبر الثاني فيتعلق بجريمة هزت العاصمة نواكشوط يوم الجمعة الماضي، حين اقتحمت عصابة من المجرمين منزل أسرة جاءت للعاصمة لعلاج ابنها، فاستولت على ما في المنزل من مال وهواتف، ولم تكتف بذلك، بل حاول أحد أفرادها الاعتداء على شرف إحدى الفتيات، فما كان من الأب السبعيني إلا أن دافع عن شرف ابنته، فطعنه المجرم بسكين وأرداه قتيلا.
تدخل الجيران وأمسكوا بأحد الجناة، قبل أن يُلقى القبض على بقية أفراد العصابة، والراجح أنهم من أصحاب السوابق.

هذا التزامن أعاد إلى ذهني موضوعا بالغ الخطورة لم ينل بعدُ ما يستحق من نقاش، كنت قد تناولته في عدة مقالات خلال السنوات الماضية. من بينها مقال نشرته يوم 16 سبتمبر 2020 بعد جريمة اغتصاب وقتل الفتاة لميمة على شارع المقاومة، وكان عنوانه: "مجرمون وقتلة خارج السجن.. إلى متى ستستمر هذه الظاهرة؟"

تداول الناس آنذاك أن مرتكبي تلك الجريمة من أصحاب السوابق الذين سبق أن أوقفوا وأحيلوا إلى القضاء قبل سنتين، وصدر بحقهم حكم بالسجن لثماني سنوات.

ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة التي ارتكبها مجرمون يُفترض أن يكونوا داخل السجن، فثمة حالات أخرى وثقتها في مقالات منشورة بمدونتي الشخصية "تصبحون على وطن".

من أبرز تلك الجرائم البشعة جريمة اغتصاب وقتل الطفلة زينب في أواخر عام 2014 بمقاطعة عرفات، حيث تعرضت للاغتصاب وهي في طريقها إلى المحظرة، ثم أُحرِق جسدها من طرف أصحاب سوابق كانوا معروفين في الحي.

وفي نهاية عام 2015، شهد السوق المركزي بالعاصمة جريمة قتل السيدة خدوج، على يد مجرم كان سجله حافلا بعمليات السطو والحرابة وتعاطي المخدرات. وقد أُفرج عنه بعد شهر واحد فقط من ارتكابه لجريمة أحالته بموجبها مفوضية السبخة رقم 2 إلى العدالة بمحضر متكامل يثبت تورطه في جرائم عدة!
إن أي بحث سريع في الجرائم المروّعة التي هزت العاصمة خلال السنوات الأخيرة، سيكشف أن نسبة معتبرة منها ارتكبها أصحاب سوابق كان يُفترض أن يكون بعضهم خلف القضبان ساعة وقوع الجريمة.

فمن المسؤول عن إطلاق سراح هؤلاء المجرمين؟

ومن الذي مكَّنهم من العودة إلى الشوارع ليحصدوا أرواح الأبرياء؟

حين يُلقى القبض على لصٍّ متلبس بجريمة اعتداء وسرقة، ثم يُفرج عنه في اليوم التالي، فإن السؤال الحقيقي لا يتعلق بالجريمة الموالية، بل بمن سمح بتكرارها!
فهل الخلل في التحقيق؟ أم في القضاء؟ أم في آليات تنفيذ الأحكام؟
وهل هناك ثغرات قانونية تُتيح لهؤلاء المجرمين الإفلات من العقاب؟
أسئلة مشروعة لا أملك إجابات قاطعة عليها، لكنها أسئلة تستحق أن تُطرح بجدية، كلما وقعت جريمة كان منفذها مجرما من أصحاب السوابق.
إن من يتتبع الجرائم الخطيرة في السنوات الأخيرة سيلاحظ قاسما مشتركا بين أغلبها. فمعظم مرتكبي تلك الجرائم هم من الشباب أو القُصَّر المتسربين من المدارس أو الذين لم يدرسوا أصلا، ويتعاطون المخدرات.
وهذا يعني أننا أمام ثلاث مؤسسات فاشلة:
أسرة فشلت في التربية، ومدرسة فشلت في التعليم، ومجتمع بأسره فشل في التحصين والتوجيه، بعلمائه ووعَّاظه وصحافته وجمعياته.
وللتذكير، فقد شهدت العاصمة نواكشوط في منتصف العام 2021 سلسلة جرائم متزامنة كان أغلب مرتكبيها من أصحاب السوابق، من بينها الجريمة المروِّعة التي راح ضحيتها الأستاذ أحمد سالم التاه رحمه الله.
وعقب تلك السلسلة من الجرائم، نظمت جمعية خطوة للتنمية الذاتية يوم السبت 10 يوليو 2021 جلسة نقاشية عن الجريمة وأسباب تفشيها، شارك فيها وزير عدل سابق، ومدير أمن سابق (مدير مساعد)، وخبير في الأدلة الجنائية، وعدد من الأساتذة والباحثين في علم الاجتماع.
وخلص المشاركون إلى حزمة من التوصيات الهامة، من أبرزها:

1. إشراك المواطن في حفظ الأمن عبر آلية مجتمعية فعالة؛
2. فرض إلزامية التعليم والتكفل بأبناء الأسر محدودة الدخل؛
3. إنشاء مراكز لعلاج الإدمان؛
4. تأسيس حاضنات ثقافية ورياضية للشباب؛
5. التصدي الجاد للغبن والتهميش ومظاهر غياب العدالة؛
6. تعزيز التوعية والتحسيس ضد الجريمة بمشاركة النخب؛
7. تحيين الترسانة القانونية وتطوير قدرات القضاة وأعوانهم؛
8. تفعيل المؤسسات الإصلاحية لإدماج الشباب ذوي السوابق؛
9. فرض الخدمة المدنية والتجنيد الإجباري؛
10. إنشاء مرصد وطني للجريمة وتحسين آليات الإحصاء؛
11. مراقبة الحدود ومراجعة نظام الدخول دون تأشيرة؛
12. إنشاء شرطة الجوار؛
13. تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية وتشجيع التخصص؛
14. إنشاء معهد للطب الشرعي والأدلة الجنائية؛
15. وقف تعطيل الأحكام القضائية والصرامة في تنفيذها؛
16. إشراك مراكز البحث في إعداد السياسات الاستشرافية.
واليوم، أعيد نشر هذه التوصيات، مع تجديد الدعوة لتنفيذ ما لم يُنفذ منها بعد.
حفظ الله موريتانيا.