الجزء الثاني من حكاية اغنية درسك ياغلانه :

في الجزء الاول من حكاية اغنية درسك يا غلانه كنا في الاكصر حيث سهرتنا العامرة لفرقة الرشيد للغناء والنشيد حيث قدمت لي الاخت ماما كلمات اغنيتين كانت درسك ياغلانه واحدة منهما – كانت السهرة طربية بامتياز كنا سعيدين وكان الحاضرون كذلك – فضت السهرة وركبنا نحن اعضاء فرقة الرشيد عدا المرحومة ديمي سيارة المهندس الفرنسي فيليب متجهين الى فندق النواب حيث اقيم انا والبيضاوي – كما بات تلك الليلة المختار ولد بوبكر في غرفتي حيث سرير فارغ لاني كنت وبعد تشكيل فرقة الرشيد قد عزلت عن زميلي السوري الفلسطيني محمد الخطيب حتى لا ازعجه عند عودتي متاخرا في كثير من الليالي – كنا بعد منتصف الليل وكنا متعبين – قبل ان انام تاملت كلمات الاغنيتين - فوجدت ايقاع درسك ياغلانه ايقاعا قصيرا يتلاءم مع الاغنية الشعبية الراقصة المفرحة - وبدات اتصور اللحن كيف يمكن ان يكون – وكأن عقلي الباطن امرني بالنوم ليقوم هو بالعمل بدلا عني نمت نوما سبقته ليلة مليئة باحلام اليقظة –
طبعا يجب ان لا ننسى انني في هذه الفترة القصيرة التي تعرفت فيها على عدة اسر فنية كان همي الاوحد ان اتعرف على المقامات الموسيقية الموريتانية واوزان الغنا الحساني وكل ما يتعلق بالموسيقى الموريتانية – وكذلك عن الحياة الفنية لطبقة الفنانين الموريتانيين وكل مايتعلق بهم من عزف وغناء وتلحين والات موسيقية محلية او عالمية ( وكانت العالمية محدودة بالكيتار الكهربائي والكيتار الاسبانيولي وآلة كمان واحدة عنداهل النانا مودرن تعزف عليها الوالدة بطريقة العزف على الربابة الافريقية – اما الاخوة الافارقة فكان عندهم عدا الجاز بعض العازفين لالات تابعة لفرقة الجاز – المهم بالنسبة لي اني عرفت امرا يجب ان اضعه في الحسبان الا وهو ان الالحان مشتركة وملك مشاع لا صاحب لها والكلمات هي التي تتغير - وان الاغنية التي يغنيها مطرب اليوم يغنيها بعد ايام كثيرون غيره وكل يدعي نسبتها اليه – أي ان حقوق الملكية الفكرية غير موجودة – بينما في كل دول العلم تدون الاغنية ويسجل تاريخ تلحينها وكل من يسرق اكثر من ثلاثة مقاييس موسيقية من ملحن سبقه اليها يحق للمسروق منه ان يقيم عليه دعوى قضائية يطالبه بحقه في الملكية الفكرية الذي اعتدى عليه زميله - ويحصل على تعويض يتناسب ومكانة الفنانين ( السارق والمسروق منه ) وما سيدر عليه اللحن من ربح او فائدة – وغالبا ما يخجل الملحن المشهور ان يقال عنه انه سرق اللحن - ولو من قبل جمهوره الذي يكون له دور هام في الكشف عن هذه السرقات ؟ فكيف اذا صارت القضية امام نقابة الفنانين !

المهم وضعت هذه القصية نصب عيناي قبل ان افكر في صياغة اللحن –
لم يتوقف عقلي الباطن عن العمل الدؤوب في تلك الليلة وعرفت هذا من حلال ماحصل اول لحظة استيقظت فيها مبكرا رغم اننا سهرنا ونمنا متأخرين ؟

لقد تناولت العود الذي كان بجانب سريري وما هي الا دقائق والاغنية جاهزة – ولم يتكرر هذا معي في حياتي الفنية الا في عدة اغاني فقط كانت هذه اهمها ؟ فبعض الاغاني اتاخر اشهرا في تلحينها والبعض الآخر اياما اما ان تكون الاغنية بمقدمتها ولازمتها والمقاطع الاخرى واللوازم الموسيقية جاهزة في اقل من نصف ساعة – ويجب ان اعترف باني مدين لموريتانيا جمهورا وطبيعة حياة ونقاء وبساطة وامان ومحبة يفتقر اليها الفنان في كل مكان عداها – بان تهطل علي الالحان من السماء كما يهطل الندى –

لم اغير او ابدل او اتراجع عن لحن حرف واحد ( لانه في العادة ان يلحن الملحن كلمة اواكثر فيجد انها ليست هي التي يبحث عنها وانها ليست بالجودة التي يصبو اليها ) - بل سارت الاغنية وكاني قد غنيتها من قبل مرات كثيرة وما انا الآن الا كاني استذكرها – وهذا مادفعني للقول : لقد كان عقلي الباطن يقظا طوال الليل ينوب عني في البحث عن لحن سترقص له كل اذن ستسمعه –
انتهيت من التلحين وانتابني شعور بالخوف من النسيان حتى لو اردت تنويط اللحن ( أي كتابته موسيقيا ) فلا بد لي ان اكون قد حفظته اولا – لم يكن لدي مسجلة وقتها – وكنت اعرف ان لدى البيضاوي رحمه الله مسجلة جيدة – لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة صباحا – والبيضاوي كان متزوجا – ان اطرق عليه الباب وفي وقت مبكر كهذا وقد جاء معي من سهرة الليلة الماضية بعد منتصف الليل بكثير ورجل معه عياله – وجدت الامر غير مقبول ؟
كل هذا وصديقي عضو فرقة الرشيد للغناء والنشيد المختار ولد بوبكر يغط في نوم عميق – ايقظته : مختار مختار اصح من نومك واسمع !
قال : ماذا اسمع ؟ قلت لحن الاغنية التي احضرتها البارحة معي من الاكصر – قال : وهل انتهيت من تلحينها ؟ قلت نعم وانت في سابع نوم !

( فعلا لقد كان مختار هو اول من سمعها على الاطلاق) سمعها وعيناه تبرقان فرحا لا يوصف وعبر عن اعجابه بجمالها وانه لم يسمع لحنا بهذا الجمال – قلت له الآن اريد مسجله لاني خائف جدا من نسيان شيء منها – نهض مسرعا الى غرفة البيضاوي ليحضر المسجلة وماهي الا لحظات حتى وصلت المسجلة وما ان انتهيت من التسجيل حتى كان البيضاوي رحمه الله ومعه فنجان قهوة تركية يعرفني احبها – وهو يقول مازحا ماهذا الازعاج من الصباح الباكر ؟
قلت له اسمع : واسمعته الاغنية ولم يكن باقل من المختار فرحا بها علما انه كان من عشاق الطرب الاصيل طرب العمالقة ام كلثوم اسمهان فيروز عبد الوهاب فريد الاطرش عبد الحليم حافظ وديع الصافي !

وقال اليوم عصرا نذهب الى ديمي ونسمعها اللحن – وهكذا كان المولود الجديد قد اطل على دنيا الفن الموريتاني وفي الغد نتابع باذن الله حكاية درسك ياغلانه اقتربت الساعة من الثانية ليلا ولا اريد ان اغضب الطبيب

  شارك المقال: