انقلابي الذي لم يقدر له أن يكون

حينما قام أول انقلاب عسكري في موريتانيا في 10 يوليو العام 1978 كانت ردة فعلي تعكس العقل العمري والسياسي لمراهق متشبع بالأفكار الثورية، وتدور في ذهنه كلمات مثل “النظام النيو-كولونيالي” و “أذناب الاستعمار”، و”الحرب الظالمة على الشعب الصحراوي”.

ارتحت للانقلاب في أيامه الأولى لكونه أسقط “نظاما رجعيا”، وإن كنت أدرك أن قادته “عسكريون يمينيون”.. ومثل كثيرين راهنت على “ضباط وطنيين” في “اللجنة”، وساهمت من “موقعي” في إضفاء الصورة التي أحب على بعض الضباط مثل المرحوم جدو ولد السالك الذي جرى تنافس قوي حوله بين الناصريين والبعثيين.. وأتذكر كيف استأت كثيرا حينما قرأت في مقابلة أجرتها معه مجلة “الوطن العربي” التي كانت تدور في فلك العراق قبل أن تنقلب عليه بعد تدميره ، ويتحول اسم ناشرها من ” وليد أبو ظهر” إلى “وليد أبو بطن”.. استأت كثيرا حينما قرأت على لسان الرائد جدو ولد السالك قوله إنه معجب بصدام حسين.. وفهمت من هذا أن المعركة حسمت لصالح البعثيين.. كان ذلك مستوى الادراك لدي..

ويبدو أن تأثير العاشر من يوليو علي كان كبيرا حيث دفع بي في ما بعد إلى التخطيط لانقلاب عسكري أقوم به أنا شخصيا وأحكم البلاد مستندا إلى ضباط برتبة ملازم التي هي رتبتي في الجيش.. كنت سأحيل كل الضباط الكبار على المعاش، مع وضعهم في ظروف جيدة.. أما صغار الضباط الذين يختلفون معي فكريا فقد قررت إشراكهم في الحكم، وإبعادهم في الوقت ذاته عن المراكز الحساسة.. وقتها لم أكن أعرف أن “تطهير الجيش” مسألة في غاية البساطة ولا تتطلب إلا اختلاق محاولة انقلابية ووضع قائمة بأسماء كل المنافسين المحتملين والزج بهم في السجن..

كان معسكري على المستوى العربي محددا: سوريا- ليبيا- الجزائر- اليمن- منظمة التحرير (مع ميل إلى يسارها).. والبوليساريو.. وفي العالم كنت سأتحالف مع الثوريين في أميركا اللاتينية، وتأتي بعد ذلك الصين والاتحاد السوفيتي. وكانت للهند ويوغسلافيا مكانتهما..

على المستوى الوطني كان تحرير العبيد “عنوة” أول بند على البرنامج الذي يشمل تقليم أظافر “التجار” من دون تأميم ممتلكاتهم، مقابل قطاع عام قوي.. وكان من أهم ركائز البرنامج دعم المواد الاستهلاكية الضرورية إلى درجة تجعل الغذاء في متناول الكل بيسر، مع تطوير الخدمة الصحية المجانية وتوسيع التعليم الذي هو مجاني أيضا، عبر تعميم المدارس والاهتمام في شكل خاص بالمدارس المتنقلة مع البدو الرحل.. وفتح جامعات في مدن مختلفة..

وكانت الزراعة بندا مهما على البرنامج حيث كان من ضمن الحلول تأسيس صندوق خاص يدعم المزارعين.. لم يصل بي التفكير إلى مزارع للدولة، لكن شراء المحصول وتسويق الفائض كان من مسؤولية القطاع العام.. عولت في الزراعة على جيوش العبيد الذين سيتحررون، وآخرين في وضعية قريبة من العبودية، كانت الدولة ستشجع قطع صلاتهم غير المتوازنة مع أسياد الأمس، وتوفر لهم مصدر رزق من خلال استصلاح الارض- التي هي ملك للشعب- ودعم مشاريعهم الزراعية، مع الدفع بأطفالهم إلى التعليم من خلال نصوص تجرم وجود طفل لا يتعلم.. وكانت المسألة سهلة في رأيي حيث ستعمم المدارس على كل القرى والبلدات وعلى أحياء البدو الرحل..

كان التعريب أمرا مفروغا منه، لكن فترة من اعتماد الازدواجية كانت ضرورية لأن في البلاد من لا يعرفون العربية، وفي فرضها عليهم ظلم.. وهنا سيكون ضروريا اكتتاب المزيد والمزيد من المترجمين، لكي لا يتعطل عمل الدولة ولا يحيق ظلم بأي أحد..

فكرت في تشجيعات خاصة للإداريين واصحاب الخبرات والتخصصات الذين يُقبِلون طوعا على تعلم العربية.. هذا خارج المدرسة.. أما في المدارس فقد قررت أن النجاح في مادة اللغة العربية شرط للتجاوز ابتداء من السنة الأولى الابتدائية إلى الأولى ثانوية.. ويطبق هذا النظام فقط على الذين ما زالوا في السنة الأولى والثانية من الابتدائية يوم نجاح الانقلاب.

جلست أسبوعا كاملا أخطط للانقلاب، وأضع كل الاحتمالات الممكنة، وأسد كل الطرق التي قد تقود إلى فشله.. واجهتني مشكلة هي: ما العمل في حال اضطررنا إلى استخدام السلاح؟.. أنا أعرف أنني لا أتحمل رؤية الدم.. وأتذكر أني في المرة الوحيدة التي أسلت فيها دما جلست أبكي يوما كاملا.. كان ذلك حينما ذبحت دجاجة… وفي الواقع ما زلت إلى يومنا هذا لا أتحمل الدم، ولم أذبح في حياتي إلا تلك الدجاجة..

كنت أحيانا أتساءل هل سنتمكن من الحكم ونقنع الآخرين؟.. ويأتي الرد مطمئنا حينما أستعرض أعضاء اللجنة العسكرية الحالية: إنهم لا يعرفون حتى نطق الحسانية في شكل صحيح، ونحن نتندر على نطق بعضهم لبعض الحروف.. هم “صنادره” بمعنى الكلمة: (ﮔـوميات).. ومع ذلك يناصرهم الموريتانيون بالمظاهرات والأناشيد.. ويجري خلفهم “فلان” و”فلان”… فكيف وهم يرون شبانا “مثقفين” يتحدثون بطلاقة ويعرفون كيف يتصرفون حينما يحضرون مؤتمرات دولية؟

وأنا أتخيل “فلانا” يأتي طالبا أن أستقبله أشعر باعتزاز وفخر .. سأقول لمدير ديواني أن لا يدخل مع الضيف.. أن يريه الباب فقط، فلا أريد أن أتصرف خارج البروتوكول أمام مساعدي.. سأنحني لذلك الضيف وأعطيه منكبي في أدب جم كما كنت سأفعل لو لم أكن رئيسا… المشكلة الوحيدة كانت أن يطلب مني ما ليس له الحق فيه.. لن ألبي طلبه، ولن أكذب.. لم أكن وقتها أعرف أن الرؤساء يكذبون، ويأخذون لأنفسهم ولأقاربهم وأتباعهم ما ليس لهم.. ولم أكن أعرف أن الحكومات عصابات لصوص قائمة على النهب والكذب والخداع…

حضَّرت كل الأوراق الضرورية للانقلاب وظهرت بحلاقة غير معهودة جرَّت عليَّ سخرية الفتيات اللائي كنت أراهن وقتها من خلال قصيدة “إلى عذارى أفروديت”.. لم يبق إلا التنفيذ.. وكانت كلمات البيان الرقم 1 حماسية جميلة.. وقف شعر رأسي- قبل أن يحلق- وأنا أنتقيها في ذهني وأتخيلني ألقيها بنبراتي المتأثرة في حينه بإلقاء الأستاذ محمد محمود ودادي، الذي كنت أيضا أقلد مشيته.

فكرت وأنا أضع اللمسات الأخيرة على خطة الانقلاب في الأسلوب السياسي الذي سننتهج.. قررت أن يكون ذلك عبر “جبهة تقدمية” تتمايز داخلها التيارات السياسية والفكرية، لكنها في الوقت ذاته تخضع لضوابط ومحددات لا تسمح للرجعيين والغوغائيين بتحريف المسيرة…

لم تكن التعددية الحزبية بمعناها الغربي مطروحة بالنسبة إلي.. لم أكن وقتها أعرف أنه كان في مقدوري مثل كل العسكريين الذين حكموا بعد هذا التاريخ أن أنال الدعم الكاسح لكل قرار أتخذه مهما كانت بشاعته ومجافاته لمصالح البلد..

عرفت في ما بعد أنه كان في مقدوري إعلان الاشتراكية والتعويل بالدرجة الأولى على دعم عتاة الليبرالية واليمين الديني ورجال القبائل، تماما مثلما دعم اليساريون والناصريون والبعثيون الليبرالية الوحشية التي انتهجها انقلابيون حكموا بعد تفكيري في انقلابي المجيد.

وحتى التعددية الحزبية بدا أنه كان متاحا لي السماح بها والاحتفاظ في الوقت ذاته بـ”الجبهة التقدمية” الصوتَ الأوحد.. و البزة العسكرية هذه التي لا أرتاح إليها تعصر جسدي، عرفت من التجارب بعد هذا التاريخ أنه كان ممكنا “سترها” والظهور للناس بثوب مدني، مع الاحتفاظ بها داخل الثكنات.. والدساتير التعددية والانتخابات والانقلابات كانت في الواقع سرقات كبرى.. لم أكن أعرف أنه كان في متناولي قبل الانتخابات أن أحدد بالضبط كم نائبا في البرلمان للجبهة التقدمية، وكم هو عدد المقاعد التي سأسمح بها لهذا الحزب أو ذاك.. ولم يكن مصطلح “الكتائب البرلمانية” رأس الحربة في بعض الانقلابات قد دخل القاموس السياسي..

قبل يوم من موعد التنفيذ بدأت أشعر بقدر من القلق الممزوج بلذة الاحلام تسبح في سماء الطموح… انسحبت إلى “الذراع” الرملي الذي كان يقع بين “لكصر” وما كان “حلة شرويطه” وأصبح “تفرغ زينة”.. أخذت أعيد تشكيل كلمات “البيان الرقم 1″، و أنطق جملا في شكل مسموع بنبرة أردتها مقنعة..

استوقفني أمر لم أفكر فيه من قبل: “المأمورية”.. هل أحدد لنفسي مأمورية؟ أم أترك الأمر للظروف؟.. قد لا يقبل الناس أن أظل رئيسا لهم.. وقد يأتي من بعدي “خائن” يضحي بمنجزات الثورة… كنت وقتها لا أعرف أنه ليس مهما التحديد من عدمه، فالدساتير كلمات يُدفع الناس إلى المصادقة عليها، ويدفعون أيضا إلى العبث بها.. لم تكن لدي فكرة عن “الميكانيزم نفاق” الذي مكن للذين حكموا بعد هذا التاريخ أن يظلوا على نحورنا في انتظار “وارث” لا يسمح لنا بالتقاط النفس إلا بالقدر الذي نصرخ فيه تمجيدا له ولعنا لسلفه..

تركت القرار بشأن المأمورية للظروف.. وبدا في ما بعد أن الفرق كان كبيرا بيني وبين أحد المنحدرين من شجرتي الانقلابية.. هو يعرف ما هي خطته، لكنه يتلهى بنفاق المتزلفين وحيرة الطامعين، وقلق الخصوم في انتظار “القرار المناسب” في “اللحظة المناسبة”.. أما أنا فقد كنت أكثر حيرة من موريتانيين سيقبعون -في عهده – في الحفائر يجمعون العيدان البشرية لينافقوا بها القادم الجديد، أو يقولوا للقديم: ” جمعناها لك ومنعناها من البحث عن غيرك”… أعرف أني لو صادفت هذا النوع من البشر بعد نجاح انقلابي كنت سأقول: “تبا لكم، وقطع الله أرزاقكم”..

في الليلة السابعة من الاعداد جلست مع الأخ سدوم ولد سيداتي ولد آبه وصديق آخر.. أمضينا ليلتنا تلك نناقش .. وقبل الصباح أقنعاني بأن الذهاب إلى الكلية العسكرية في العراق أفضل لي منه أن أواصل دراستي العادية..

فشل انقلابي إذن، ولعل في ذلك خير، فقد أعتقل المرحوم الملازم سيد احمد ولد خو، أحد الذين كنت ذاهبا معهم إلى بغداد، في محاولة انقلابية فاشلة حملت المسؤولية فيها للمصطفي ولد محمد السالك و سيد احمد ولد بنيجاره ودحان ولد أحمد محمود في مارس من العام 1983….

كان انقلابي سيحمل الرقم 16 في سلسلة الانقلابات الناجحة والمحاولات الفاشلة..

  شارك المقال: