تجارة " الموت في سبيل الحياة " : معرض دائم للتبغ الخام في الهواء الطلق

تشرح آمنة بنت يعقوب، وهي تتوسط أكواما من التبغ الخام، كيف تعيل أسرتها منذ أكثر من عشرين عاما بفضل هذه الصناعة رغم كل ما يعتري ممارستها من مصاعب: من مطاردات الشرطة إلى مشاكل البلدية والضرائب والعمل تحت أشعة الشمس اللافحة طوال ساعات النهار فضلا عن ملاحظات الأقارب ممن يجودون، تلويحا وتصريحا، بمعلومات صحية أو آراء فقهية لا تهتم لها بعد هذه السيدة الخمسينية التي تحضر ثم تبيع بالتقسيط منذ عام 1982 المادة القاتلة حتى لو كان ذلك في سبيل حياتها وحياة أبنائها.

معرض دائم للتبغ، الذي يظل تسويقه محل فراغ قانوني في البلاد، في شوارع الحي التجاري بالعاصمة نواكشوط ودخل زهيد تعيش عليه مئات العائلات التي تعتمد في قوتها على كفاح نسوة اخترن بيع هذه المادة القاتلة بحثا عن ما يعتبرنه "عيشا كريما" لأطفالهن.

عملية تكرير شاقة

تعرض آمنة، ومئات من صواحبها ممن ينثرن التبغ الخام في الشوارع المحاذية لأبرز أسواق العاصمة، على الزبائن مختلف أنواع التبغ: هناك نوعية ’العود‘ وهي الأفضل" وفقا لآمنة التي تشرح كيف تتطفل السياسة حتى على عالم بائعات التبغ بالتقسيط: فــ"المعارضة" تمثل التبغ متوسط الجودة فيما يظل "بفتك" أردأ نوعية غالب من يقتنيها هم صغار تجار التقسيط ممن "لا يهتمون للكيف ولا لجودة المادة" أما المدمنون المحترفون فهم من يعمد إلى بقية الأصناف.

ولا تخلو العملية من مشقة بالغة :فأوراق التبغ الخام التي تشتريها النسوة من موزعين في السوق يتم تعريضها لأشعة الشمس في الهواء الطلق وبعد أن تنشف تتم غربلتها على عدة مراحل تمثل في مجملها عملية تكرير شاقة تعودت عليها النسوة رغم أن الروائح المنبعثة من أخبيتهن الصغيرة تؤدي بغير المتعودين على استنشاقها إلى نوبات عطاس فيما تظل نكهة التبغ عالقة بالثياب لعدة ساعات. بعد عملية التكرير هذه تكون مختلف المشتقات جاهزة لتلبية أذواق مختلف أنواع المدمنين بمن فيهم ألئك الذين يفضلون استنشاق غبار التبغ عن طريق الأنف أو من يدخنون بالطريقة المعتادة.

لا تتذكر آمنة منذ متى وهي تمارس مهنة تحضير التبغ لكنها تشير إلى أحداث مايو 82 (محاولة انقلاب 16 مايو 1982) كبداية لعلاقتها بالمادة السامة التي بفضلها تعيل أسرتها رغم أنها تتمنى لبناتها الحصول على أعمال مكتبية أكثر راحة وأكثر مردودية إذ مقابل جهد بدني هائل يبذلنه في تكرير المادة لا تربح النسوة إلا دراهم معدودة في كل كيلوغرام "وحين يأتي موسم المطاردات تتبخر كل أحلامنا في الربح وربما انتهز المدينون الأقل تقوى الفرصة للهرب بأموالنا المتواضعة" حسب بنت يعقوب.

"نرفض اللجوء في وطننا"

تعتبر بنت يعقوب أن بائعات التبغ "يمارسن عملا شريفا ويدر عليهن دخلا يعلن به أطفالهن". "كل هؤلاء هن ما بين أرملة ومطلقة تخلى زوجها عن رعاية أطفاله" تقول بنت يعقوب التي ترفض بشدة ما بات يمارس عليهن من "ابتزاز" من قبل الشرطة والبلدية مضيفة "كل واحدة منا تدفع 2.000 أوقية شهريا من أجل أن تتمكن من البقاء تحت هذه الشمس الحارقة، لكن هذا لا ينجينا من المطاردات". وبحسب بنت يعقوب فقد حصل أن تم اعتقالهن ومصادرة بضائعهن قبل أن يجدن أنفسهن مجبرات على على دفع 6.000 أوقية عن كل واحدة منهن من أجل أن يتم الإفراج عنهن فيما صودرت أملاكهن إلى الأبد.

وبحسب بنت يعقوب، التي يحيل النسوة إليها للحديث باسمهن، فإنهن لا يرفضن من حيث المبدأ التخلي عن هذه التجارة في حال ما تم دمجهن في أعمال أخرى "إذا ثبت أن ما نقوم به محرم" كما تقول ساخرة.

وتخترم مؤكدة على الرفض البات بأن يعشن "كلاجئات في وطنهن" داعية إلى السماح لهن بحرية العمل خاصة وأنهن "لا يرفضن دفع إيجار معقول يراعي حجم نشاطهن في حال وفرت لهم أماكن".

ويغيب عن شكاوى بائعات التبغ تقريبا أي حديث عن "إشكال قانوني" في قضيتهن. فالشكاوى ضد البلدية والشرطة تتركز حول احتلالهن لنقاط من الشارع. أما طبيعة المادة الضارة التي يسوقنها فتغيب كليا عن الاهتمام الرسمي، فتواضع الأدبيات الفقيهة حديثا على حظر المادة لما يجد صداه بعد هنا رغم مؤشرات مقلقة عن حجم استيراد البلاد من المادة التي تقتل سنويا عشرة ملايين شخص في العالم والتي تعتبر السبب الرئيس في كثير من أمراض القلب والسكتة الدماغية وعدة أنواع من السرطان ولاسيما سرطان الرئة والإلتهاب الشعبي المزمن بالرئة ومشاكل الأوعية الدموية القلبية و الطرفية والدماغية، فضلا عن التهابات اللثة وإصابات العضلات والذبحة الصدرية وآلام الرقبة والظهر وقرحة الإثني عشر ونخر العظام وعتمة العين والتهاب عظام المفاصل والتهاب القولون والإكتئاب والصدفية وكرمشة الجلد وفقدان السمع والتهاب المفاصل الروماتويدي و ضعف جهاز المناعة...