الاسلاميون بين أخطاء الأنا وتشويه الآخر

القصة: بعد ما اشتد غضب الخليفة العباسي هارون الرشيد على وزرائه آل برمك أصبحت أقرب الطرق الى قلبه هي تلك التي تمر فوق اجداثهم وتناصب العداء لكل ماله علاقة بهم، وتطور الامر في اللاحق حتى صار النيل منهم وسيلة للعفو عمن يدان في جريمة سياسية لا تغتفر في المنهج الحكامي المَحتِدي.

المقال: تعاني كثير من الكتابة عن تيار الإسلام السياسي في موريتانيا الذي يمثله "تواصل" من فقر معرفي وتحامل مكشوف، وانحراف منهجي شديد، باتجاه فهم هذ التيار أو تجاهل فهمه لأغراض مختلفة، وهو ما يجعلها تستعيض عن البحث الموضوعي والمتجرد بنماذج جاهزة، يجري ترديدها دون أي تفكيك أو محاولة إثبات.

وبالطبع فان الهدف من كتابة هذا "الهراء" ليس الدفاع عن تيار الاسلام السياسي اًو "مغازلة له" ، كما سيتبين لاحقا ، لكن الحملات المكشوفة والمغرضة على هذا الفصيل قد أصبحت قضية رأي عام يجب على الكل ان يسهم قدر طاقته في معرفة ابعادها وتفكيك رموزها، وعموما فإن من يعرفون هذا الكائن "وقليل ما هم" يدركون موقفه من "الإسلام السياسي" ولكن ثمّة فرق كبير بين النقد الموضوعي الذي يبنى على الفهم والتحليل، وبين الإصابة بداء متلازمتي "الكنتي اخوان" الذي إن لم يخفي هدفا "دسما" في طياته، فإنه يطمس الحقائق ويشوه الواقع.

ومن ضمن النماذج التي يتم التسويق لها عن تيار الإسلام السياسي "أخونة الدولة"، و"الميكافلية" و(العودة الى عصر النخاسة وتقطيع الايدي والأرجل من خلاف) وحكم "الدهماء" والهرولة خلف "الباب العالي" والتأسيس لخلافة عثمانية جديدة، وهي مقولات فضلاً عن أنها تعكس موقفاً تشويهيا تجاه فصيل معتبر من الطيف السياسي الأيديولوجي والسياسي الوطني، فإنها تفتقد الجدية والموضوعية من منظور مرن ، بل اكثر من ذلك، أن مواقف الإسلاميين تنفي بتجرد، مثل هذه المقولات، فقد أصبح في حكم الثابت يقيناً ان استراتيجيتهم تناقض ذلك تماماً، حيث سعو إلى الشراكة والتوافق والتقارب مع القوى السياسية الأخرى رغم اخلافها الجذري معهم، ولم يكن ذلك، علي نحو ما ابرزت العقود الماضية، "فقها مرحليا" وإنما استراتيجية تكاد تكون ثابتة، وهو ما تجسد في تجربة "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" التي وقفت ضد الانقلاب على حكم سيدي ولد الشيخ عبد الله، في السابق ، والمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة حاليا.

كذلك فان موقف الإسلاميين من معظم الترسانات الدستورية الماضية سوى دستور "ولد ابنيجارة" رغم ما تمتاز به من أسس علمانية ليبرالية ويسارية، على الأقل من وجهة نظر الإسلاميين، ليكشف، بسهولة، مدى إصرار التيار على روح التوافق والاعتدال والسير نحو الحداثة والانفتاح، بعيداً عن "الرجعية" الذي يتهمه بها الكثيرون.

ايضا، لا يخلو خطاب الحركات اليسارية والليبرالية و"الوطنجية"، من نظرةٍ استعلائيةٍ ووصائية تحكم معيارياً على غيرها من المكون الوطني، والترخيص لنفسها الحكم عليه من خلالها، حيث تحدد للإسلاميين برامج قيمية يجب أن تقبل بها، لكي يتم قبولها في المجتمع، وهي بذلك لا تقع في ازدواجية فحسب اذ انها ترفع التعدّدية الفكرية والأيدولوجية والسياسية كشعار لها، وإنما تفرض الوصاية على الآخر، بنفس الطريقة التي تروج لها عن الإسلام السياسي، ما يعكس استعلاء قيمياً وأيدولوجياً على الأخر، ولا يستند إلى أرضية منهجية أو موضوعية.

**********

ومنذ بداية الخطوات الأولى لنظام ولد الطائع نحو تطبيع العلاقات مع اسرائيل أخذت ظاهرة الخوف من تيارات الإسلام السياسي والتخويف منه تأخذ شكلاً جديدا وتحالف في ذلك أكاديميون واعلاميون ومراكز دراسات معظمها ذو خلفيات يسارية أو ليبرالية أو مرتبطة بجهات أمنية دولية أو محلية.

وهذه الظاهرة بلغت أشدها بعد التحولات الجذرية للعالم بعد احداث 11 من سبتمبر ثم ازداد نضجها بعدما تأكد للجهات الرسمية ذلك الدور الكبير الذي لعبه تيار الإسلام السياسي في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها فرسان التغير ضد نظام ولد الطائع، ودورهم القوي في الحركة الدعوية والفكرية بشكل عام، إضافة الى تصدرهم لقائمة العاملين في الحقل الخيري، مع الإشارة إلى حجم دورهم الذي يلعبونه في تدفق رأس المال العابر للحدود نحو الداخل ونحو الخارج في ءان معا.

وقد اخذ مسلسل التنفير من التيار الإسلامي أساليب مرحلية تتعدد اشكالها بحسب الظرف الزماني باعتبارهم تيارا إرهابيا او متطرفا أو دوغمائيون رجعيون الى تيار ينتهك الحريات الفردية ويميز بين الافراد من منطلق الجنس أو يمارس الديكتاتورية باسم الدين هذا بالإضافة الى نصيب وافر من الاتهام بالعمل لأجندات خارجية كجزء من تنظيم دولي محظور مع اتهامات "تمييزية" بالبرغماتية، إضافة الى النظرة الاستعلائية الساقطة التي تطلق عليهم "الغلمان" و تشكك في قدرتهم على إدارة دولة معاصرة تساير ركب الحداثة بما تحمله الكلمة من دلالات حقيقية كإدارة مؤسسة اجتماعية متعددة الأعراق والمشارب الفكرية ترتكز شرايين حياتها على ما تجنيه من علاقاتها الخارجية بالغرب في الأغلب.

ومن منظور سبري قياسي متجرد فان واحدة من هذه التهم كفيلة بالقضاء على أي تيار بما فيه الإسلام السياسي في اقل من عقدين لو انها كانت واقعية على الارض، بل وتحويله الى ثلة صغيرة من الثابتين على المبدأ بخيره وشره، كما حدث مع عدد من الجماعات الأيديولوجية التي رأت النور على هذه الربوع في وقت معين من تاريخها، واستفحل امرها، ومع وضوح أهدافها وكشف عوراتها بدأت تنحصر شيئا فشيئا، حتى آلت للسقوط.

ان ما يمتاز به تيار الإسلام السياسي في موريتانيا من حيوية ومرونة وقدرة زئبقية على التمدد وكسب ثقة الأفراد ((والتي تجعل منه رقما صعبا في المرحلة القادمة حسب منظوري الخاص ولا اعني بذلك الاستحقاقات القادمة بالضرورة، لكن اسهمه سترتفع مع تنامي الرغبة في التغيير والتحرر من قيود الزعامة التقليدية، والتطلع الى البديل القوي لذي يمكن ان يضع حدا لحكم المؤسسة العسكرية، ورغبة المجتمع الدولي في إقامة ديمقراطية حقيقية في البلد)) اذا وضعنا ذلك في الحسبان، ونظرنا الى ماضي التيار القريب حيث كان ينحصر في جماعة صغيرة تتكون من عدد من الطلبة وأئمة المساجد، فإن ذلك سيشكل مصدر تشكيك في التهم التي يستخدمها معارضوه، إلا إذا وضعنا المعايير السبرية والقياسية في محل المشكوك فيه أيضا، وهو استثناء يجانب المنطق المصطلح عليه لدى الجميع.

ومن منطلق متجرد وحسب الإمكانيات النقدية المتواضعة، فمن حقي ان أحاول تفكيك رموز تلك المواقف وكيف أصبحت موقفا مدرا لـ"لإعجاب" على منصات التواصل الجمعي، كلما احس احد اباطرة "الفسابكة" بالعزلة، وكيف أصبحت تلك الموافق مصدرا للفت انتباه اطراف حزبية داخلية ومراكز نفوذ داخلية ودول خارجية عربية وغربية...!

***********

لم يغب تيار الإسلام السياسي نفسه عن تلك الصورة التي يحاول بعض النخب رسمها في المخيلة العامة عنه، بل ان أخطاؤه، وممارساته و"فقهه المرحلي"، وعدم عزله وتبرئه من بعض من ينتسبون اليه من أصحاب الرؤى الأصولية الدوغمائية، بهدف الاستقطاب السياسي، واستدرار الحوالات المصرفية السعودية العابرة للحدود أوجد فخاخا وذرائع لمن يناوئون التيار في الطرح، فمنذ البداية استقطب الإصلاحيون الوسطيون والجماعة الإسلامية قبلهم المئات من فلول السلفية "الوهابية" والاتجاهات الإسلامية الأصولية والجماعات التكفيرية البعيدة كل البعد عن المنهج الإخواني الوسطي الذي يتبناه الرأي الرسمي للتيار "التواصلي" الذي هو محور الاهتمام ، وذلك بعد الضربات الأمنية التي وجهت للتيار الوهابي التكفيري في نهاية حكم ولد الطائع والتحولات التي شهدها العالم اجمع بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر وما اكتنفها من تحميل للمسئولية للجماعات الوهابية التكفيرية.

كذلك فان سقف الشعارات التي يرفعونها كشعار "الرحيل" مثلا ركوبا لموجة الربيع العربي، والتي لا تتناسب مع امكاناتهم غالبا في مراحل من عمرهم السياسي، قد حد من قوة تأثير رسائلهم الإعلامية، وفاعليهم الاستقطابية، ويضاف الى ذلك حالة العزلة الإعلامية التي كان التيار يعانيها ما قبل عصر "الجزيرة"، والأنترنت، كما ان لجوئهم الى العمل في الخفاء خلال الفترة ما قبل الترخيص لحزبهم وخصوصا في فترة تنظيم "حاسم" شكل نوعًا من الغموض لدى البعض وولد هاجسا حول حقيقة أهدافهم فيما لو وصلوا الى مرحلة ما يسمى "التمكين".

ان المواقف السياسية التي تعطي شعورا عن براغماتية تيار الإسلام السياسي والتي دعته في مرحلة ما الى المشاركة في حكومة مطبّعة مع الكيان الصهيوني، لتشكل نقاطا سوداء في تاريخه، إضافة الى اتخاذه لجملة من الموافق السياسية الاستعجالية دون دراسة وتفكير وإدراك لعواقبها والتي تطرح تساؤلات جمة عن مدى النضج السياسي للتيار، كما حدث في الانتخابات التشريعية الماضية حيث شاركوا فيها، فيما قاطعها حلفائهم في المنتدى وغير ذلك من المواقف التي تطبعها البرغماتية، من منظور الآخر، وتضعف ثقة الشركاء فيه.

وفي بعد ءاخر فأن محاولة بعض المنظرين في التيار الإسراع به نحو صدارة الموكب الحداثي أدى الى مسلسل من التنازلات والمراجعات الجذرية ما حوله الى موقع أكثر علمانية وأضعف ثقة المحافظين الإسلامين فيه، وأكسبه طابعا "ميكافليا" يمكن ان يضحي بكل ثوابته في سبيل كرسي الحكم، كل ذلك من منظور الآخر طبعا.

ومن ناحية أخرى نجد ان الاهتمام بالبعد الإقليمي والدولي و "الجماعاتي" يحظى باهتمام أكثر في أدبياته ومواقفه، من البعد المحلي، من المنظور المناوئ، الأمر الذي اضفى عليه نوعا من الغرابة عن الجسم العام للمنظومة الوطنية وأجلسه في موقع "الدخيل".

كما ان الهالة القدسية او المكانة الكهنوتية التي يحيط بها بعض رموزه وثوابته، والحدة في الخطاب تجاه اي منتقد لتلك الرموز والثوابت، والتي تتنافى مع حرية الفرد في تكوين رأيه حول شخص ما، او مسألة ما، قد يكوّن ذلك تساؤلات لدى منتقدي التيار حول ايمانه الفعلي بالمنهج الديمقراطي كسبيل أمثل للحكامة، وحول مدى ترسخ مبادئ الحريات الفردية في فقهياته، وأعطى تخوفا من ممارسته للدكتاتورية حالما يصل الى كرسي الحكم.

صحيح ان أصحاب الأيديولوجيات الأخرى التي تنفر الآخر من الإسلاميين، قد قمعت الحريات وأنشأت الأنظمة البوليسية ومارست شتى صنوف الاستبداد والطغيان وعطلت الانتخابات ورسخت الحكم العسكري وحكم الفرد وأن معظم التيارات العلمانية اليسارية والليبرالية والقومية المناوئة للإسلاميين كانت سنوات حكمها "سنوات جمر"، لكن الإسلاميين لم يناوأ بأنفسهم عن فخ التهمة بسبب المعطيات آنفة الذكر.

***********

واذا نظرنا الى الآخر فمن وجهة نظري الخاصة ان ضعف اطلاع على الترسانة الفكرية والأدبية للإسلام السياسي ضمن أسباب عديدة قد ادي لظهور تلك المواقف، فمعظم من يتبنونها ظلوا بعيدا عن قراءة ما كتبه منظرو التيار وعن برامجه وأفكاره، بل ان منهم من يخلط بينه مع تيارات اخرى بأسلوب يوضح مدى التيه في الخلفيات الفكرية للحركات، وحتى أولئك الذين تكلفوا عناء القراءة عنه وسلطو الضوء على أدبياته فان دراستهم كانت بشكل مجتزئ، او مما يكتبه المناوئ، او الافراد داخل التيار الذين لا يمثلون خطه الرسمي، او ما كتب في مراحل سابقة وتم النظر فيه واخضع لمعيار التجديد لأن التيار يؤمن بالتدرج في الخطوات حسب ما يصرح به، كما يضع عدم استعداء الآخر كقاعدة للوصول لهدفه المبتغى ، وهذا ما لم يضعه أصحاب الرأي الآخر في الحسبان.

ان معظم أصحاب الطرح المناوئ للتيار قد ركزوا في قراءاتهم –ان حصلت-على ما يكتبه افراد من التيار في مرحلة من المراحل تحت اكراهات الواقع وظلم الحكام واضطهادهم الفكري دون اعتبار الظرفية الزمكانية لصاحب لنص فضلا عن كونه لا يمثل الرأي الرسمي للتيار، ولم يضعوا في الحسبان ان المتصدين لتلك الآراء كان معظمهم من التيار نفسه، كما حدث خلال مرحلة "حوار السجون" وضف الى ذلك ان التاريخ اثبت ان كل حملات الاضطهاد والاعتقال والمصادرة لم تستطع ان تفقد التيار سلميته ومدنيته.

كذلك لم يغب الصراع الأيديولوجي عن المشهد فتكوين المؤسسة الفكرية لدولتنا الفتية قد بنيت اسسه على دعائم علمانية قومية او يسارية أو ليبرالية او معا، وبالتالي فمن الطبيعي ان يكون هناك رفض من أصحاب تلك الايديولوجيات لأي رافد فكري جديد، خصوصا إذا كانت مبادئه دينية بعدما تم تدجين المؤسسة الدينية التقليدية ذات المبادئ الرجعية وصهرها في المنظومة المسيطرة، فظهور مؤسسة دينية جديدة مرنة تواكب الحداثة وتطرح بديلا إسلاميا في مجتمع مدين بطبعه سيشكل قضاء شبه تام على تلك الإيديولوجيات -كما يحدث بالفعل- وذلك بسبب الإمكانات التنظيمية والقدرة التعبوية الواسعة للتيار مما ولد هاجسا من استحواذه على الملعب، وطرد الآخر منه.

ان كينونة التيار الإسلامي في موريتانيا كجزء من منظومة دولية تختلف مسمياتها حسب الدول والاقطار، والحملات التطهيرية والتشويهية التي يقام بها من حين لآخر ضده في البلدان العربية كما يحدث في مصر والإمارات والسعودية حاليا، وهي امتداد لممارسات دأب عليها الحاكم العربي منذ نشأة الإسلام السياسي وحتى الان، وبلغت ذروتها بتداعيات "الخريف المضاد" قد ساهمت بشكل كبير في شيطنة الإسلام السياسي.

كما ان "شهر العسل" الذي يعيشه المعسكر السعودي -حلفاء حكام نواكشوط-مع إسرائيل، والحديث عن "صفقة القرن" وتحويل السفارة الامريكية من عمارة تل ابيب كان له دوره هو الاخر، في محاولة تشويه صورة هذا التيار، إذ لا ينبغي ان ننسى موقفه من القدس، "قضيته المركزية" حسب ما تمليه خلفيته الدينية والثقافية و"الإخوانية".

وإذا علمنا ان الموقف الغربي المهيمن والمنحاز لإسرائيل جذريا، والذي ساهم مع الدكتاتوريات طوال العقود الماضية في اقصائهم، حتى ربط البعض بين أنجع وسيلة لاستمرار الحاكم في السلطة، وبين قدرته على مطاردة الإسلاميين وكبحهم وتهميشهم، بل تعدى الأمر ذلك الى تكريم الكتاب والمفكرين المناوئين لهم وحيازتهم لأكبر الجوائز العالمية، ناهيك عن الامتيازات المادية والحصانات -غير المعلنة- لمن يناوئ طرحهم، فإننا لن نستغرب وجود جبهة إعلامية وفكرية وسياسية تناوئ التيار اذ ان مبدأ النفعية هو اكثر ما يجمع نخبتنا.

************

وإذا كان فرانسيس فوكوياما في أطروحة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" قد وصف الإسلام "الأصولي" بأنه دين شمولي يريد التحكم بكافة مظاهر الحياة العامة والخاصة، وقد لا يعارض الديمقراطية الانتخابية على الطريقة الإيرانية، ولكن اعترافه بالحقوق المرتبطة بالليبرالية مثل حرية الفكر والدين قد يكون تحديا بالغ الصعوبة.

وإذا كانت نخبنا الليبرالية، وحتى اليسارية في مفارقة غريبة تتلقف "عميانيا" تلك الأفكار وتواجه صعوبة في تعريف كلمة "اصولي" ودلالتها الحقيقية عند فوكوياما وعلى من يمكن ان تطلق، وضف الى ذلك ان التيار الإسلامي يطرح منظومة قيمية متكاملة بمنهجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتشكل بديلا إسلاميا، فمن الطبيعي ان نجد في زمن القطب الواحد "السيطرة الامريكية" من يحارب هذا التيار ويطرح في نقده رؤية تجانب الواقع بل وتشوه قيمه، فغياب الوعي المعرفي الداخلي والانبهار بالنهضة الغربية وحالة البؤس الداخلي وتحالف المؤسسة الدينية التقليدية مع الحاكم في تفقير الشعب وتجهيله ، وثورة المعلومات الحديثة وما وفرته من انفتاح على الآخر، والأذرع الليبرالية الطويلة، لن يكون أي من تلك المعطيات ببعيد عن تشكيل جبهة داخلية مناوئة للبديل الوحيد الذي ما زال يشكل خطرا على الحضارة الليبرالية الغربية المهيمنة.

ولكن من منظور متجرد فإن أي مقارنة موضوعية بين حزب "تواصل" وبين اترابه من الأحزاب السياسية ذات المشارب الفكرية المختلفة في البلد ستبين عن فرق شاسع في السلوك الديمقراطي بشكل عام، مع العلم أن الأنظمة الديمقراطية العلمانية نفسها تختلف في تطبيقاتها للديمقراطية، الأمر الذي لفت انتباه السفارات الغربية وخصوصا الامريكية لهذا الحزب، واكسبه مكانة لديها رغم تاريخ العداء الطويل والممتد نحو الازل، لكن سياسة الامر الواقع قد فرضت هنا على امريكا وحلفائها، مما يحسب كمكسب للتيار، وبالتالي فان تقبل الأمريكيين له ربما يعزز فرصه، لكنه يسحب البساط من تحت اقدام مناوئيه ما يفسر الحملات الأخيرة.

لقد تعزز الحضور الشبابي والنسوي في وسط الحزب، بسبب طرحه لبرنامج حداثي يحافظ على القيم والمبادئ الدينية والوطنية بحيث لا يفرط ولا يفرط غالبا، كما ان التبادل على السلطة وعدم الانجراف الأعمى نحو القيادة كما شاهدنا في انتخاباته الداخلية قبل شهرين ولد شعورا برؤية مختلفة عما يسير عليه قطار الأحزاب السياسية المعهود في البلد، لكن غياب الرؤى المختلفة داخل الحزب تعطي شعورا عن مدى فهم افراده لمبادئه، اذ ان من الصعب أو حتى المستحيل ان ينقاد هذا الكم من البشر نحو هدف واحد دون ان يتساءل أحدهم لماذا، ولعل المنظومة العقائدية التي تشكل منطلقا لأفكاره كانت السبب خلف ذلك.

**********

ان العمل على تنظيم ندوات فكرية "شاملة" تضم مختلف الطيف الإيديولوجي الوطني، و"متسلسلة" توضح نقاط الخلاف تباعا، وتسعى الى إيجاد تقارب فيها مع بقية الطيف، وتصحح مفاهيم ظلت حقيقتها غامضة، وتكشف ما علق بتيار الإسلام السياسي من تهم غير صحيحة، وتؤكد احترامه للتعددية الفكرية، ولمواقف الآخر، وتبين رؤيته البديلة وبرنامجه "النهضوي" إضافة الى مراجعات داخلية وفلترة لأعضائه الذين لا يمثلون الرأي الرسمي له، ولتبرأ من اطروحاتهم والاعتراف بأخطاء الماضي مهما كانت، وتوضيح النقاط التي لم يزل فهمها عالقا في ذهن المراقبين، ربما تكون المسمار الأخير في نعش التيار المناوئ، وبالتالي وصول تيار الإسلام السياسي الذي يمثله "تواصل" الى كرسي الحكم.

وعموما فإن كل هذه المعطيات تظل مشروطة برغبة المجتمع الدولي في إيجاد ديمقراطية حقيقة في بلد إسلامي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية منذ أكثر من ربع قرن ويقبع في منطقة الساحل ذات الوضع غير المستقر امنيا، لكنه يتمتع بمقدرات اقتصادية هائلة تجعله هدفا لشتى لمطامع.

للعبرة: ليس المهم ان ترى نفسك أكثر الرجال وسامة، بل المهم ان تقنع الآخرين بذلك.


  
صوتك
www.swatak.net
2018-05-11 22:19:55
رابط هذه الصفحة:
http://sawtak.info/article3272.html